الموالاة المحرّمة

الموالاة المحرّمة

قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عَدُوّي وعدوَّكم أوْلياءَ تُلْقون إليهمْ بالمودَّة وقد كفروا بما جاءكم منَ الحقِّ يُخْرِجونَ الرسولَ وإيّاكمْ أَنْ تؤْمنوا باللـه رَبِّكمْ إنْ كنتمْ خرجْتُمْ جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مَرْضاتي تُسِرّونَ إليهمْ بالمودّة وأنا أعلمُ بما أَخْفَيْتُمْ وما أعلنتمْ ومن يفْعَلْهُ منكمْ فقدْ ضَلَّ سواءَ السبيل)) سورة الممتحنة (1)

نزلت هذه الآية وآيات عدة بعدها في حاطب بن أبي بلتعة. قال ابن كثير في تفسيره: (وذلك أن حاطباً كان رجلاً من المهاجرين، وكان من
أهل بدر أيضاً، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريشٍ أنفسهم بل كان حليفاً لعثمان. فلما عزم رسول اللـه صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لما نقض أهلها العهد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: «اللـهم عَمِّ عليهم خبرنا». فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول اللـه صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً. فأطلع اللـه تعالى على ذلك رسول اللـه صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها. وهذا بيّن في الحديث المتفق على صحته).

قصة حاطب كانت سبب نزول الآية ولكن الآية عامة في جميع المؤمنين في كل زمان ومكان.

((لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء)) هذا نهي جازم كما يدل على ذلك سبب نزول الآية والعبارات اللاحقة في الآية.

((عدوّي وعدوّكم)) هذا تعبير فيه وصف مفْهِمٌ يشكل عِلَّةً للنهي عن الموالاة.

((تلقون إليهم بالمودة)) وجاء بعد ذلك ((تُسِرّون إليهم بالمودة)). قصة حاطب تبيّن نوع المودّة التي يُلقون بها سِرّاً. إنها المودّة التي تفشي سرَّ المسلمين وتؤدي إلى إفشال المسلمين أو إلحاق الأذى بهم، وتنفع الكفار على حساب المسلمين.

إذاً ليس النهي عن كل مودة بل عن المودة التي تنفع الكفار على حساب المسلمين أو التي تضرّ بالمسلمين. وليس النهي عن كل كافر بل عن الكافر الذي يحمل العداء ويتصرف بموجب هذا العداء.

وقد جاءت آيات فيها نهي عن موالاة اليهود والنصارى بشكل مطلق مثل قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضُهم أولياء بعض، ومن يتولّهم منكم فإنه منهم، إن اللـه لا يهدي القوم الظالمين)) هذا النهي المطلق يُحمل على النهي المقيّد في الآية الواردة بعد هذه بست آيات، أي الآية 57 من سورة المائدة وهي قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هُزُواً ولَعِباً من الذين أوتوا الكتابَ من قَبْلِكم والكفار أولياء)) فجعل اتخاذهم للإسلام هزواً ولعباً هو المانع من مواددتهم. وأيضاً فإن هناك نصوصاً قيدتْ هذا المطلق، منها قوله تعالى في سورة الممتحنة: ((لا ينهاكم اللـه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتقسطوا إليهم إن اللـه يحب المقسطين . إنما ينهاكم اللـه عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهَروا على إخراجكم أنْ تَوَلَّوْهُمْ ومن يتولَّهُمْ فأولئك هم الظالمون)).

وأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك. فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام. فقال إنه لا يستطيع. فقال عمر: أجنبٌ هو؟ قال: لا بل نصراني. قال: فانتهرني وضرب فخذي ثم قال: أخرجوه ثم قرأ ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارى أولياء)) هذا الحديث يبيّن لنا فهم عمر رضي اللـه عنه أن الآية تمنع تسليم مثل هذه الأمور لغير المسلمين، لأن مثل هذه الأمور هي من عمل البِطانة، مثل قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانةً من دونكم)) والبطانة هم المقربون من الحكام الذين يطلعون على أسرار الدولة.

كلمة الولاء والموالاة لها معان كثيرة منها: المحبة والمودة والنصرة والمصادقة والقرابة والخضوع والتبعية والإخلاص.

والكافر (غير المسلم) تكون بيننا وبينه حالات منها: أن يكون قريباً أو ذا رحم مثل الأب أو الأم أو الزوجة أو الخالة... ولا يحمل العداء ولا يؤذي ولا يطعن في الإسلام، وقد يكون جاراً أو زميلاً في العمل أو الدراسة، وقد يكون شريكاً في مالٍ أو أجيراً ولا يحمل العداء ولا يؤذي ولا يطعن في
الإسلام. كل هؤلاء وأمثالهم مطلوب منا أن نعاملهم بالبر والقسط والاحترام. فموالاة هؤلاء جائزة وغير محرمة ولا مكروهة، بل قد تكون مندوبة أو واجبة في بعض الأحيان. ولكن الموالاة الجائزة لهؤلاء هي بمعنى المحبة والمودة والمصادقة والنصرة إذا كان مظلوماً والإخلاص في النصيحة. ولكن لا تكون الموالاة لهؤلاء (غير المسلمين بمعنى الخضوع أو التبعية لأن اللـه يقول: ((ولن يجعل اللـه للكافرين على المؤمنين سبيلا)) ولا تكون ولاية للأب الكافر على ابنته المسلمة في تزويجها.

أما الكافر الذي يكون في حالة حرب معنا أو يطعن في ديننا أو يؤذينا أو يساعد عدونا علينا فلا يجوز أن نواليه لا بالمحبة ولا المودة ولا النصرة ولا المصادقة ولا شيء من ذلك، إلا أنه يجوز لنا أن ننصحه ونحمل له الدعوة الإسلامية لعله يتعظ ويهتدي.

وحين يعيش الكافر في دار الإسلام ويكون من أهل ذمتنا فالمسلمون كأفراد وكحكام واجب عليهم معاملته كالمسلم حسب القاعدة الشرعية «لهم ما لنا من الإنصاف وعليهم ما علينا من الانتصاف»

No comments: